كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل: الْمُشْرِكُ يَجْعَلُ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى فَهُوَ يَعْبُدُ فِي حَالٍ لَيْسَ هُوَ فِيهَا الواحد قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ مَنْشَؤُهُ أَنَّ لَفْظَ (الْإِلَهِ) يُرَادُ بِهِ الْمُسْتَحِقُّ لِلْإِلَهِيَّةِ وَيُرَادُ بِهِ مَا اتَّخَذَهُ النَّاسُ إلَهًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَهًا فِي نَفْسِ الْأمر بَلْ هِيَ أَسْمَاءٌ سَمَّوْهَا هُمْ وَآبَاؤُهُمْ. فَتِلْكَ لَيْسَتْ فِي نَفْسِهَا آلِهَةً وَإِنَّمَا هِيَ آلِهَةٌ فِي أَنْفُسِ الْعَابِدِينَ. فَإِلَهِيَّتُهَا أمر قَدَّرَهُ الْمُشْرِكُونَ وَجَعَلُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلْخَارِجِ كَاَلَّذِي يَجْعَلُ مَنْ لَيْسَ بِعَالَمِ عَالِمًا وَمَنْ لَيْسَ بِحَيِّ حَيًّا وَمَنْ لَيْسَ بِصَادِقِ وَلَا عَدْلٍ صَادِقًا وَعَدْلًا فَيُقال: هَذَا عِنْدَك صَادِقٌ وَعَادِلٌ وَعَالِمٌ وَتِلْكَ اعْتِقَادَاتٌ غَيْرُ مُطَابِقَةٍ وَأَقْوَالٌ كَاذِبَةٌ غَيْرُ لَائِقَةٍ.
وَلِهَذَا يَجْعَلُ سبحانه ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِافْتِرَاءِ وَالْكَذِبِ كَمَا قال أَصْحَابُ الْكَهْفِ {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}.
وقال الْخَلِيلُ {إنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخلقونَ إفْكًا}.
وقال: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ} أَيْ أَيُّ شَيْءٍ يَتَّبِعُ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ؟ وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ وَالْخَرْصَ وَهُوَ الْحَزْرُ. هَذَا صَوَابٌ وَأَنَّ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ. وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا نَافِيَةٌ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ كَأَبِي الْفَرَجِ. وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا قَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وقال هُودٌ {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ إنْ أَنْتُمْ إلَّا مُفْتَرُونَ}. وَإِذَا كَانَتْ إلَهِيَّةُ مَا سِوَى اللَّهِ أمرا مُخْتَلَقًا يُوجَدُ فِي الذِّهْنِ وَاللِّسَانِ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْأَعْيَانِ. وَهُوَ مِنْ بَابِ الْكَذِبِ وَالِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقِ. وَمَا عِنْدَ عَابِدِيهَا مِنْ الْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ لَهَا تَابِعٌ لِذَلِكَ الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ. كَمَنْ اعْتَقَدَ فِي شَخْصٍ أَنَّهُ صَادِقٌ فَصَدَّقَهُ فِيمَا يَقول وَبَنَى عَلَى إخْبَارِهِ أَعْمَالًا كَثِيرَةً. فَلَمَّا تَبَيَّنَ كَذِبُهُ ظَهَرَ فَسَادُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ كَأَتْبَاعِ مُسَيْلِمَةَ وَالْأُسُودِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ الزَّوَايَا وَالتُّرَّهَاتِ وَمَا يَشْرَعُونَهُ لِأَتْبَاعِهِمْ مِمَّا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ بِخِلَافِ الصَّادِقِ وَالصِّدْقِ.
وَلِهَذَا كَانَتْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}.
وقال فِي كَلِمَةِ الشِّرْكِ {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قرار}. فَلَيْسَ لَهَا أَسَاسٌ ثَابِتٌ وَلَا فَرْعٌ ثَابِتٌ إذْ كَانَتْ بَاطِلَةً كَأَقْوَالِ الْكَاذِبِينَ وَأَعْمَالِهِمْ. بَلْ هِيَ أَعْظَمُ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ مَعَ الْحُبِّ لَهَا. وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ الظُّلْمِ. قال ابْنُ مَسْعُودٍ «قُلْت: يَا رسول اللّه أَيْ الذَّنْبِ أَعْظَمُ. قال: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خلقك». فَنَفْسُ تَأَلُّهِهِمْ لَهَا وَعِبَادَتِهِمْ إيَّاهَا وَتَعْظِيمِهَا وَحُبِّهَا وَدُعَائِهَا وَاعْتِقَادِهَا آلِهَةً وَالْخَبَرُ عَنْهَا بِأَنَّهَا آلِهَةٌ مَوْجُودٌ كَمَا كَانَ اعْتِقَادُ الْكَذَّابِينَ مَوْجُودًا. وَأَمَّا نَفْسُ اتِّصَافِهَا بِالْإِلَهِيَّةِ فَمَفْقُودٌ كَاتِّصَافِ مُسَيْلِمَةَ بِالنُّبُوَّةِ.
فَهُنَا حَالَانِ حَالٌ لِلْعَابِدِ وَحَالٌ لِلْمَعْبُودِ. فَأَمَّا الْعَابِدُونَ فَكُلُّهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِبَادَةٌ وَتَأَلُّهٌ لِمَنْ عَبَدُوهُ. وَأَمَّا الْمَعْبُودُونَ فَالرَّحْمَنُ لَهُ الْإِلَهِيَّةُ وَمَا سِوَاهُ لَا إلَهِيَّةَ لَهُ بَلْ هُوَ مَيِّتٌ لَا يَمْلِكُ لِعَابِدِيهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا.
{قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقولونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} وَهُوَ فِي أَصَحِّ الْقوليْنِ {سَبِيلًا} بِالتَّقَرُّبِ بِعِبَادَتِهِ وَذِكْرِهِ. وَلِهَذَا قال بَعْدَهَا {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} فَأَخْبَرَ عَنْ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا أَنَّهَا تُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ. وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. فَقوله: {نَعْبُدُ إلَهَكَ}، {إلَهًا واحدًا} إذَا قِيلَ إنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الْفَاعِلِ الْعَابِدِ أَوْ مِنْ الْمَفْعُولِ الْمَعْبُودِ. فَالْأَوَّلُ: نَعْبُدُهُ فِي حَالِ كَوْنِنَا مُخْلِصِينَ لَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاه. وَالثَّانِي نَعْبُدُهُ فِي الْحَالِ اللَّازِمَةِ لَهُ وَهُوَ أَنَّهُ إله واحد فَنَعْبُدُهُ مُخْلِصِينَ مُعْتَرِفِينَ لَهُ بِأَنَّهُ الْإِلَهُ وَحْدَهُ دُونَ مَا سو اه. فَإِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ هَذَا الثَّانِي امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْرِكُ عَابِدًا لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَعْبُدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَهُوَ سبحانه لَيْسَتْ لَهُ حَالٌ أُخْرَى نَعْبُدُهُ فِيهَا. وَإِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ نَعْبُدَهُ فِي حَالٍ أُخْرَى نَتَّخِذُ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى فِي أَنْفُسِنَا. لَكِنَّ قوله: {إلَهًا واحدًا} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مِنْ الْمَعْبُودِ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ: نَعْبُدُهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينُ فَإِنَّ هَذِهِ حَالٌ مِنْ الْفَاعِلِ. وَلِهَذَا يَأْتِي هَذَا فِي القرآن كَثِيرًا كَقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} وَقوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي}. فَهَذَا حَالٌ مِنْ الْفَاعِلِ فَإِنَّهُ يَكُونُ تَارَةً مُخْلِصًا وَتَارَةً مُشْرِكًا. وَأَمَّا الرَّبُّ تعالى فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا إلَهًا واحدًا. وَالْحَالُ وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً لِلْمَفْعُولِ فَهِيَ أَيْضًا حَالٌ لِلْفَاعِلِ. فَإِنَّهُمْ قالوا: نَعْبُدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ. فَلَزِمَ أَنَّ عِبَادَتَهُمْ لَهُ لَيْسَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَالِ. وَبَيَّنَ أَنَّ قوله: {نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ}...
{إلَهًا واحدًا} هِيَ حَالٌ مُتَعلقةٌ بِالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ جَمِيعًا بِالْعَابِدِ وَالْمَعْبُودِ. فَإِنَّ الْعَامِلَ فِيهَا الْمُتَعلق بِهَا الْعِبَادَةُ وَهِيَ فِعْلُ الْعَابِدِ وَاَلَّذِي يُقال لَهُ الْمَفْعُولُ فِي الْعَرَبِيَّةِ هُوَ الْمَعْبُودُ. كَمَا قِيلَ فِي الْجُمْلَةِ {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. قِيلَ: هِيَ وَاوُ الْعَطْفِ وَقِيلَ وَاوُ الْحَالِ أَيْ نَعْبُدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ.
قالوا: وَهِيَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ (نَعْبُدُ) أَوْ مَفْعُولِهِ لِرُجُوعِ الْهَاءِ إلَيْهِ فِي (لَهُ) وَهَذَا التَّرْدِيدُ غَلَطٌ إذْ هِيَ حَالٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا. فَإِنَّهُمْ إذَا عَبَدُوهُ وَهُمْ مُسْلِمُونَ فَهُمْ مُسْلِمُونَ حَالَ كَوْنِهِمْ عَابِدِينَ وَحَالَ كَوْنِهِ مَعْبُودًا إذْ كَوْنُهُمْ عَابِدِينَ وَكَوْنِهِ مَعْبُودًا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِمُقَارَنَةِ أحدهِمَا دُونَ الْآخَرِ. فَالظَّرْفُ وَالْحَالُ هُنَا كَلِمَةٌ وَلَيْسَتْ مُفْرَدًا وَلِهَذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ. فَإِنَّ الْمُفْرَدَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ صِفَةً لِهَذَا وَهَذَا. فَإِذَا قُلْت: ضَرَبْت زَيْدًا قَاعِدًا فَالْقُعُودُ حَالٌ لِلْفَاعِلِ أَوْ الْمَفْعُولِ. وَإِذَا قُلْت: ضَرَبْته وَالنَّاسُ قُعُودٌ فَلَيْسَ هَذِهِ الْحَالُ مِنْ أحدهِمَا دُونَ الْآخَرِ بَلْ هِيَ مُقَارِنَةٌ لِلضَّرْبِ الْمُتَعلق بِهَا كَأَنَّهُ قال: ضَرَبْته فِي زَمَانِ قُعُودِ النَّاسِ. فَهُوَ ظَرْفٌ لِلْفِعْلِ الْمُتَعلق بِالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِخِلَافِ مَا إذَا قُلْت: ضَرَبْته فِي حَالِ قُعُودِي أَوْ قُعُودِهِ فَهَذَا يَخْتَلِفُ. وَالْآيَةُ فِيهَا {إلَهًا واحدًا}. فَهَذِهِ حَالٌ مِنْ الْمَعْبُودِ بِلَا رَيْبٍ. فَلَزِمَ أَنَّهُمْ إنَّمَا عَبَدُوهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ إلَهًا واحدًا وَهَذِهِ لَازِمَةٌ لَهُ. وَإِذَا قِيلَ الْمُرَادُ: فِي حَالِ كَوْنِهِ مَعْبُودًا واحدًا لَا نَتَّخِذُ مَعَهُ مَعْبُودًا آخَرَ فَهَذِهِ حَالٌ لَيْسَتْ لَازِمَةً لَكِنَّهُ صِفَةٌ لِلْعَابِدِينَ لَا لَهُ. قِيلَ: هَذَا لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ لَهُ وَلَا وَصْفٌ لَهُ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْإِلَهِيَّةَ. لَكِنْ فِيهَا وَصْفَهُمْ فَقَطْ. وَأَيْضًا فَقوله: {إلَهًا واحدًا} كَقوله: {وَإِلَهُكُمْ إله واحد} فَهُوَ فِي نَفْسِهِ إله واحد وَإِنْ جَعَلَ مَعَهُ الْمُشْرِكُونَ آلِهَةً بِالِافْتِرَاءِ وَالْحُبِّ. فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْمُ. وَلَوْ أَرَادُوا ذَلِكَ الْمَعْنَى لَقالوا: نَعْبُدُهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ ذَكَرُوهُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ قولهمْ {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} لاسيما إذَا جُعِلَتْ حَالًا أَيْ نَعْبُدُهُ إلَهًا واحدًا فِي حَالِ إسْلَامِنَا لَهُ.
وَإِسْلَامِهِمْ لَهُ يَتَضَمَّنُ إخْلَاصَ الدِّينِ لَهُ وَخُضُوعَهُمْ وَاسْتِسْلَامَهُمْ لِأَحْكَامِهِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ. وَلِهَذَا قال أمرا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقولوا {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحد مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. ثُمَّ قال: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أحسن مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَانٍ جَلِيلَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ اسْتِيفَائِهَا.
فَصْلٌ:
وَهَذَا النِّزَاعُ فِي قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} هَلْ هُوَ خِطَابٌ لِجِنْسِ الْكُفَّارِ كَمَا قالهُ الْأَكْثَرُونَ أَوْ لِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا كَمَا قالهُ بَعْضُهُمْ يَتَعلق بِمُسَمَّى (الْكَافِرِ) وَمُسَمَّى (الْمُؤْمِنِ).
فَطَائِفَةٌ تَقول: هَذَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ وَافَى الْقِيَامَةَ بِالْإِيمَانِ. فَاسْمُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَهُمْ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا. فَأَمَّا مَنْ آمَنَ ثُمَّ ارْتَدَّ فَذَاكَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ بِإِيمَانِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْأَشْعَرِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَهَكَذَا يُقال: الْكَافِرُ مَنْ مَاتَ كَافِرًا. وَهَؤُلَاءِ يَقولونَ: إنَّ حُبَّ اللَّهِ وَبُغْضَهُ وَرِضَاهُ وَسَخَطَهُ وَوِلَايَتَهُ وَعَدَاوَتَهُ إنَّمَا يَتَعلق بِالْمُوَافَاةِ فَقَطْ. فَاَللَّهُ يُحِبُّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا. وَيرضى عَنْهُ وَيُوَالِيهِ بِحُبِّ قَدِيمٍ وَمُوَالَاةٍ قَدِيمَةٍ. وَيَقولونَ: إنَّ عُمَرَ حَالَ كُفْرِهِ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ. وَهَذَا الْقول مَعْرُوفٌ عَنْ ابْنِ كِلَابٍ وَمَنْ تَبِعَهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَأَكْثَرُ الطَّوَائِفِ يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا فَيَقولونَ: بَلْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ عَدُوًّا لِلَّهِ ثُمَّ يَصِيرُ وَلِيًّا لِلَّهِ وَيَكُونُ اللَّهُ يُبْغِضُهُ ثُمَّ يُحِبُّهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ وَالْعَامَّةِ. وَهُوَ قول الْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة وَالْحَنَفِيَّةِ قَاطِبَةً وَقُدَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ. وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ القرآن كَقوله: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}. وَقوله: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} فَوَصَفَهُمْ بِكُفْرِ بَعْدَ إيمَانٍ وَإِيمَانٍ بَعْدَ كُفْرٍ. وَأَخْبَرَ عَنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَأَنَّهُمْ إنْ انْتَهَوْا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ.
وقال: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} وَقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: تَقول الْأَنْبِيَاءُ: «إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ. وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ». وَفِي دُعَاءِ الْحَجَّاجِ عِنْدَ الْمُلْتَزِمِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: فَإِنْ كُنْت رَضِيت عَنِّي فَازْدَدْ عَنِّي رِضًا وَإِلَّا فَمِنْ الْآنَ فَارْضَ عَنِّي. وَبَعْضُهُمْ حَذَفَ فَارْضَ عَنِّي فَظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ فَمِنْ الْآنِ أَنَّهُ مِنْ الْمَنِّ. وَهُوَ تَصْحِيفٌ. وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ كَمَا فِي تَمَامِ الْكَلَامِ وَإِلَّا فَمِنْ الْآنَ فَارْضَ عَنِّي. فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَزْدَادُ رِضًا وَأَنَّهُ يرضى فِي وَقْتٍ مَحْدُودٍ. وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرَةٌ. وَهُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ.
فَصْلٌ:
وَنَظِيرُ الْقول فِي {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} الْقولانِ فِي قوله: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قوليْنِ:
أحدهُمَا: أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِمَنْ يَمُوتُ كَافِرًا. وَهَذَا مَنْقول عَنْ مُقَاتِلٍ كَمَا قال فِي قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}. وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ الضَّحَّاكِ.
قالا: نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي طَالِبٍ وَأَبِي لَهَبٍ مِمَّنْ لَمْ يُسْلِمْ.
وقال الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَخَمْسَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ لَمْ يَذْكُرُوا غَيْرَ هَذَا الْقول كَالثَّعْلَبِيِّ والبغوي وَابْنِ الْجَوْزِيِّ.
قال البغوي: هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَقْوَامٍ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الشَّقَاوَةِ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ.
وقال ابْنُ الْجَوْزِيِّ قال شَيْخُنَا علي بن عُبَيْدِ اللَّهِ: وَهَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ بِهَا الْخُصُوصُ لِأَنَّهَا آذَنَتْ بِأَنَّ الْكُفَّارَ حِينَ إنْذَارِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَقَدْ آمَنُ كَثِيرٌ مِنْ الْكُفَّارِ عِنْدَ إنْذَارِهِمْ. وَلَوْ كَانَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي الْعُمُومِ لَكَانَ خَبَرُ اللَّهِ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ نَقْلُهَا إلَى الْخُصُوصِ. وَالْقول.
الثاني: أَنَّ الْآيَةَ عَلَى مُقْتَضَاهَا وَالْمُرَادُ بِهَا أَنَّ الْإِنْذَارَ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَافِرِ مَا دَامَ كَافِرًا لَا يَنْفَعُهُ الْإِنْذَارُ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ أَنَّهَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْإِيمَانِ. وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قوله: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}.
فَالْآيَاتُ أُفُقِيَّةٌ وَأَرْضِيَّةٌ وَقرآنية وَهِيَ أَدِلَّةُ الْعِلْمِ. وَالْإِنْذَارُ يَقْتَضِي الْخَوْفَ. فَالْآيَاتُ لِمَنْ إذَا عَرَفَ الْحَقَّ عَمِلَ بِهِ فَهَذَا تَنْفَعُهُ الْحِكْمَةُ. وَالْإِنْذَارُ لِمَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَلَهُ هَوًى يَصُدُّهُ فَيُنْذَرُ بِالْعَذَابِ الَّذِي يَدْعُوهُ إلَى مُخَالَفَةِ هَوَاهُ وَهُوَ خَوْفُ الْعَذَابِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ. وَآخَرُ لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ فَيَحْتَاجُ إلَى الْجَدَلِ فَيُجَادِلُ بِاَلَّتِي هِيَ أحسن. وَقَدْ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَقال: {إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا}، {إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}. فَالْمُرَادُ أَنَّ الْكَافِرَ مَا دَامَ كَافِرًا لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ سَوَاءٌ أُنْذِرَ أَمْ لَمْ يُنْذَرْ وَلَا يُؤْمِنُ مَا دَامَ كَذَلِكَ. لِأَنَّ عَلَى قَلْبِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ مَوَانِعَ تَصُدُّ عَنْ الْفَهْمِ وَالْقَبُولِ. وَهَكَذَا حَالُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوَاه. وَهُوَ سبحانه لَمْ يَقُلْ (إنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ). وَقِيلَ ذَلِكَ لِمَنْ سَبَقَتْ عَلَيْهِ الشِّقْوَةُ أَوْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الْكَلِمَةُ كَقوله: {إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُؤْمِنُونَ إلَّا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ وَقْتَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ كَإِيمَانِ فِرْعَوْنَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا. وَمُوسَى قَدْ دَعَا عَلَيْهِ فَقال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}، {قال قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}. وَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ سبحانه الْكُفَّارَ فَهُوَ مِثْلُ قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} الْآيَةَ. فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ قَدْ يُؤْمِنُوا إذَا شَاءَ. وَآيَةُ الْبَقَرَةِ مُطْلَقَةٌ عَامَّةٌ. فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي الْمُنَافِقِينَ. فَبَيَّنَ حَالَ الْكَافِرِ الْمُصِرِّ عَلَى كُفْرِهِ أَنَّ الْإِنْذَارَ لَا يَنْفَعُهُ لِلْحُجُبِ الَّتِي عَلَى قَلْبِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ. وَلَيْسَ قال: إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي أحدا مِنْ هَؤُلَاءِ فَيَسْمَعُ وَيَقْبَلُ. وَلَكِنْ هُوَ حِينَ يَكُونُ كَافِرًا لَا تتنَاوَلُهُ الْآيَةُ. وَهَذَا كَمَا يُقال فِي الْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ: لَا يَجُوزُ أَنْ تُعْقَدَ لَهُ الذِّمَّةُ وَلَا يَكُونُ قَطُّ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ مَا دَامَ حَرْبِيًّا. فَالْكُفَّارُ مَا دَامُوا كُفَّارًا هُمْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ. لَهُمْ مَوَانِعُ تَمْنَعُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ لِلْمُنَافِقِينَ مَوَانِعَ تَمْنَعُهُمْ مَا دَامُوا كَذَلِكَ وَإِنْ أُنْذِرُوا. وَهَذَا كَقوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} فَهَذَا مِثْلُ كُلِّ كَافِرٍ مَا دَامَ كَافِرًا.
وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ يَسْمَعُونَ إذَا زَالَ الْغِطَاءُ الَّذِي عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ وَهُوَ الْكُفْرُ. فَمَا دَامُوا هَذِهِ حَالُهُمْ فَهُمْ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ تَغَيُّرَ الْحَالِ مُمْكِنٌ كَمَا قال: {إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَكَمَا هُوَ الْوَاقِعُ.
وَمِثْلُ هَذَا يُفِيدُ أَنَّ الإنسان لَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ بِدُعَائِهِ وَإِنْذَارِهِ وَبَيَانِهِ يَحْصُلُ الهدى وَلَوْ كَانَ أَكْمَلَ النَّاسِ وَأَنَّ الدَّاعِيَ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا نَاصِحًا مُخْلِصًا فَقَدْ لَا يَسْتَجِيبُ الْمَدْعُوُّ لَا لِنَقْصِ فِي الدُّعَاءِ لَكِنْ لِفَسَادِ فِي الْمَدْعُوِّ. وَهَذَا لِأَنَّ حُصُولَ الْمَطْلُوبِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى فِعْلِ الْفَاعِلِ وَقَبُولِ الْقَابِلِ كَالسَّيْفِ الْقَاطِعِ يُؤَثِّرُ بِشَرْطِ قَبُولِ الْمَحَلِّ فِيهِ لَا يَقْطَعُ الْحِجَارَةَ وَالْحَدِيدَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالنَّفْخُ يُؤَثِّرُ إذَا كَانَ هُنَاكَ قَابِلٌ لَا يُؤَثِّرُ فِي الرَّمَادِ. وَالدُّعَاءُ وَالتَّعْلِيمُ وَالْإِرْشَادُ. وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لَهُ فَاعِلٌ وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْعِلْمِ وَالهدى وَالنِّذَارَةِ وَلَهُ قَابِلٌ وَهُوَ الْمُسْتَمِعُ. فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَمِعُ قَابِلًا حَصَلَ الْإِنْذَارُ التَّامُّ وَالتَّعْلِيمُ التَّامُّ وَالهدى التَّامُّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَابِلًا قِيلَ: عَلَّمْته فَلَمْ يَتَعَلَّمْ وَهَدَيْته فَلَمْ يَهْتَدِ وَخَاطَبْته فَلَمْ يُصْغِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
فَقوله فِي القرآن {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} هُوَ مِنْ هَذَا. إنَّمَا يَهْتَدِي مَنْ يَقْبَلُ الِاهْتِدَاءَ وَهُمْ الْمُتَّقُونَ لَا كُلَّ أحد. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّقِينَ قَبْلَ اهْتِدَائِهِمْ بَلْ قَدْ يَكُونُوا كُفَّارًا. لَكِنْ إنَّمَا يَهْتَدِي بِهِ مِنْ كَانَ مُتَّقِيًا. فَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ اهْتَدَى بالقرآن. وَالْعِلْمُ وَالْإِنْذَارُ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا أمر بِهِ القرآن. وَهَكَذَا قوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} الْإِنْذَارَ التَّامَّ فَإِنَّ الْحَيَّ يَقْبَلُهُ. وَلِهَذَا قال: {وَيَحِقَّ الْقول عَلَى الْكَافِرِينَ} فَهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا الْإِنْذَارَ. وَمِثْلُهُ قوله: {إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا}. وَعَكْسُهُ قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ} أَيْ كُلُّ مَنْ ضَلَّ بِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ. فَهُوَ ذَمٌّ لِمَنْ يَضِلُّ بِهِ فَإِنَّهُ فَاسِقٌ. لَيْسَ أَنَّهُ كَانَ فَاسِقًا قَبْلَ ذَلِكَ. وَلِهَذَا تَأَوَّلَهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْخَوَارِجِ وَسَمَّاهُمْ (فَاسِقِينَ) لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا بالقرآن. فَمَنْ ضَلَّ بالقرآن فَهُوَ فَاسِقٌ. فَقوله: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ خَتَمَ عَلَى قَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ غِشَاوَةً فَسَوَاءٌ عَلَيْك أَنْذَرْته أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُ هُوَ لَا يُؤْمِنُ أَيْ مَا دَامَ كَذَلِكَ.